لم يدر بخلدي قبل صيف 1995 الملتهب أن هناك من يشاركني هوايتي الغريبة وأنني لست المجنون الوحيد الذي يستخدم وسائل المواصلات داخل القاهرة والاستيلاء على مقعد في (الأتوبيس) بالساعات ــ من أجل القراءة والقراءة فقط ــ وأن (الأتوبيس) المتجه من وإلى المطار به مجانين مثلي..
كانت الساعة قد تخطت الخامسة بقليل ــ بتوقيت القاهرة الصيفي ــ والشمس تنكسر حدتها ببطء شديد ، ونهار الصيف المؤلم يصارع الليل حتى لا يجيء ، والحافلة تنطلق.. تخرج من الشرنقة.. تودع الأذن ضجيج القاهرة بالتدريج.. تطل نسمات صحاري مصر الجديدة ــ المطار .. يفاجئني صاحب المقعد المجاور لي باستفهام أفزعني : ( هاشم الرفاعي ؟!!) .. كاد الكتاب أن يسقط من يدي.. هبطتُ على أرض الواقع بعد أن سرقني هذا الكتاب من الزمن.. أجبته متلعثماً: نعم .. ولكن ابتسامته الهادئة لم تلبث أن تلاشت معها كل هواجسي..
ــ (ماذا تعرف عنه؟! ) .. تأملت ملامحه جيداً لأول مرة وامتطيت نرجسيتي لأستعرض عضلاتي الثقافية بعد أن أثارها باستفهامه التهكمي..!!
ــ كتبتُ عنه موضوعاً لإحدى المجلات العربية أقرب إلى التحقيق منه إلى المقال ولم ينشر.. فمدير مكتب المجلة في القاهرة قال لي كعادته (إنت مش حترتاح إلا لما تقفلها وبعدين نبيع بطاطا).. يضحك صاحبي بصوته ــ وكأنني قلت نُكتة ــ ثم يقول : هؤلاء المدراء يجاملون تلك المجلات العربية على حساب بلدهم والكثير منهم تخطى سن الخمسين ومازالوا في عداد النكرات.. ولكن (هاشم الرفاعي) توفي وهو طالب بالفرقة الثالثة بكلية دار العلوم ، وكما ترى أبدعَ وسطّر حروف اسمه بحروف من نور في سجل المبدعين..
ــ دعنا من الصحافة وهمومها وقل لي أنت من هو (هاشم الرفاعي) ؟!!
كان الأتوبيس قد وصل إلى محطته الأخيرة ــ موقف مطار القاهرة الجديد ــ ويستعد ليعاود الكَرّة من جديد.. والقادمون من مختلف بلدان العالم يُقبّلون ربوع المكان، والمسافرون يغسلون بدموعهم آلام الغربة القادمة.. وصديقي الجديد يفتح صندوق الدنيا ويسرقني من عامليْ الزمان والمكان لنتجول سوياً في عالم (هاشم الرفاعي) نتفيّأ ظلال ذكراه.. يا عُشب الذاكرة الأخضر.. ويا ماء الحياة الأزهر..
وُلد (هاشم جامع هاشم الرفاعي) في أنشاص الرمل ــ التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية في 15 مارس 1935م/1354هـ في أسرة مسلمة متدينة.. حفظ القرآن صبياً في كُتّاب القرية.. ثم يلتحق بعدها بكلية (دار العلوم) بالقاهرة ولم يكن (هاشم الرفاعي) مُجرد طالب موهوب.. بل كان مُسلماً متديناً حتى النخاع.. دانت له اللغة العربية فأصبحت طوع بنانه.. فإذا به ملء السمع والخاطر بطول البلاد وعرضها.. حيث انطلق كفارس من فرسان الشعر الجدد وذاع صيته في مهرجانات القاهرة ودمشق ــ وهو في العشرين ــ وقد تم اختياره طالباً مثالياً للجمهورية عام 1959م ..
كان هاشم الرفاعي شاباً متمرداً على السلبيات المألوفة ، يؤمن بأن الوطن لم يبتسم بعد والحرية حمامة مذعورة قصّوا أجنحتها.. ولذا هاجم (رجال الثورة) وهاجم (جمود الأزهر) وتم فصله أكثر من مرة من (المعهد الأزهري ودار العلوم) التي التحق بها فيما بعد.. وقد كتب وهو في الصف الأول الثانوي الأزهري قصيدته التي فُصِل بسببها عاماً كاملاً:
قُم في ربوعِ المجدِ وابكِ الأزهَرَا
واندُبْه روضاً للمكارمِ أقفرا
ولولا تدخل (محمد أنور السادات) رئيس مجلس الأمة حينذاك لتم فصله نهائياً.. والعلاقة بين (الرئيس السادات) و (هاشم الرفاعي) حيرت كل المهتمين بالأدب ومازال النقاد يلهثون ليعرفوا سر العلاقة بين الشاعر المتمرد وبين الزعيم (السادات).. وبالرغم من تمرد (الشاعر الدرعمي) على رجال الحكم حينذاك.. إلا أن الأمانة الأدبية تقتضي أن نقول: إن كمال الدين حسين ــ وزير التعليم ــ بذل الكثير من الجهد كي يروّض هذا الشاعر الشاب المتمرد.. فقد وجد الوزير في (هاشم الرفاعي) ضالته ووجد فيه الأمل الذي سيعيد (راية الشعر) إلى (مصر) بعد أن استقرت في (لبنان) بعد رحيل (شوقي) و (حافظ) .. وكان الوزير على وشك النجاح بإعادة الراية وتتويج (الرفاعي) أميراً جديداً لكن القدر أراد شيئاً آخر.. فقبل أن يُكمل (الشاعر) دراسته بكلية دار العلوم عاجلته المنيّة على أيدي بعض الحاقدين.. واستشهد الشاعر العظيم وهو مازال طالباً في الجامعة في 1 يوليو 1959 وهو لم يكمل الرابعة والعشرين.. أبدع فيها ما أبدع بالرغم من مشاكل إبعاده عن الدراسة وفقده لعامين بسب الفصل والمطاردة..
كان هاشم الرفاعي ~ يرفل في رداء الإسلام لا يترك مناسبة إلا وكان النجم الأول فيها..
أمسياتٌ من الضياءِ وليلٌ
ساهرٌ عنده تجمّع قومي
في خشوعٍ لا يسمع المرء منهم
رفَّ في جُنحِه الإخاءُ وزَانَهْ
حول شيخٍ مُرتّلٍ قُرآنَه
غير همسٍ: سبحانه.. سبحانَهْ
غاص هاشم الرفاعي في بحور الأدب العربي.. كتب في القصة والمسرحية.. وله محاولات شعرية باللغة العامية.. وقد أُطلقت عليه العديد من الألقاب: البُحتري الصغير/ شاعر الإسلام/ شاعر الطبيعة/ شاعر العروبة/ معجزة الشعر العربي...
ملكنا هذه الدنيا قرونا
وسطّرنا صحائفَ من ضياءٍ
وأخضَعَها جدودٌ خالدونا
فما نَسِــيَ الزمانُ ولا نَسينا
أما قصيدته الخالدة (رسالة في ليلة التنفيذ) فقد كان لها الغَلَبة والدور القوي والفعال.. حتى إن الكثيرين لا يعرفون له إلا هذه الملحمة ــ والتي كتبها قبل أن يكمل 19 عاماً من عمره القصير.. ومازال الكثيرون يعتقدون إلى الآن أن (هاشم الرفاعي) كان معتقلاً وأبدع هذه الملحمة الخالدة (رسالة في ليلة التنفيذ) داخل زنزانته.. ولكنها في الحقيقة رؤية شاعر أبدعها وهو في حجرة منزله.. وقد ذهب بعض نُقّاد العربية إلى أن (رسالة في ليلة التنفيذ) من أفضل 10 قصائد عربية قيلت في الخمسين سنة الأخيرة.. وقال بعض المتحمسين إنها من أفضل 10 قصائد في تاريخ الشعر العربي الحديث..
أبتاهُ ماذا قد يخطُّ بناني
هذا الكتابُ إليكَ من زنزانةٍ
لم تبقَ إلا ليلةٌ أحيا بِها
والحبلُ والجلاّد منتظرانِ
مقرورةٍ ، صخرية الجدرانِ
وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني
ويحلّق (هاشم الرفاعي) في سماء الشعر بين التدين والفلسفة والوصف والهجاء...
ومِن العواصِفِ ما يكون هبوبها
إن احتدامَ النارِ في جوفِ الثَّرَى
وتتابعُ القطراتِ ينزلُ بعدَهُ
بعد الهدوءِ وراحة الرُّبانِ
أمرٌ يثيرُ حفيظة البركانِ
سَيْلٌ يليهِ تدفقُ الطوفانِ
يقول الدكتور/ ذكي المهندس ــ عميد كلية دار العلوم الأسبق: لو قُدِّر لهاشم الرفاعي البقاء لكان أشعر أهل زمانه.. بينما أجمع كل من الروائي (يوسف السباعي) والدكتور/ عبدالحكيم بلبغ ــ عميد سابق لدار العلوم، والدكتورة/طلعة الرفاعي والأستاذ/ شفيق جبري (سوريا) .. أن هاشم الرفاعي لو عاش لسن الثلاثين لغيّر مجرى الشعر العربي وسحب البساط من شعراء العربية قدامى ومحدثين.. بينما يؤكد الدكتور/ أحمد هيكل ــ وزير الثقافة الأسبق أن هاشم الرفاعي كان (مشروع أمير لإمارة الشعر العربي) .. أما أستاذه (علي الجندي) فيقول: لو عاش هاشم خمس سنوات أُخرى لفاق شعراء العربية قاطبةً... بينما يؤكد الكُتّاب (مجدي الشهاوي ــ المتبني لحياة الشاعر) ومحمد كامل حتة / ومحمد حسن بريغش ــ الأردن ) : أن هاشم الرفاعي كان مُعجزة شعرية يصعب تكرارها.
ثم اختنق المصباح.. وذبلت الزهرة.. ومات هاشم قبل أن يكمل 24 ربيعاً..
أنا يا بُنَيّ غداً سيطويني الغَسَقْ
لم يبقَ من ظلِّ الحياةِ سوى رَمَقْ
وقد قامت كلية دار العلوم بتأبين الشاعر في جلسة باكية ضمت أساطين البديع في مصر والعالم العربي يتقدمهم وزير المعارف المصري ونخبة من الشعراء يرثون فقيد الشعر الشاب.. أحمد هيكل / علي الجندي/ شفيق جبري .. وغيرهم .. واختتمت الدكتورة السورية (طلعة الرفاعي) الليلة الحزينة بقولها:
يا زهرةٌ لو أُمهِلَتْ ملأَتْ نوافِحُها الرحاب
لهَفِي عليكَ فهل يطولُ على الحِمَى منكَ الغيابْ
كان هاشم الرفاعي يميل إلى تأييد (محمد نجيب) .. وعندما زار الرئيس نجيب محافظة الشرقية لتوزيع الأراضي على صغار الملاك قال:
أملٌ تحقق في البلاد عسيرُ
لما أعيد إلى الكنانة مجدُها
قد كان في خلد الفقير يدورُ
وانجاب عنها الليل والديجُورُ
ص وقفــــــــــــة ..
لا أتفق مع الذين صبغوا ديوان الرفاعي وقصائده إلى ما يؤمنون به (هم) من أفكار.. فالأستاذ/ محمد كامل حتة في 1960 جعل منه شيوعياً.. والأستاذ/محمد حسن بريغش في 1980 جعله أصولياً.. والحقيقة أن هاشم الرفاعي في سنواته الأولى لم يكن سوى شاعر مبدع فقط.. يمتدح جمال عبدالناصر ثم يهجوه!
جمعتَ لنا كياناً ضاعَ بين الناسِ واضطربا
وكنا في تخبطنا نخاف الغربَ إنْ غَضِبا
فلولاك لأصبحنا فريسته إذا وثبا
وأشْهَدُ أن أهل الأرض قد عرفوا بك العَرَبا
ويقول في 18 يونيو 1959:
الآن صارَ الدهرُ طوع بنانهِ
فانهض بشعبكَ يا جمالُ فإننا
مدَّ الذراع لمجده ترحيبا
جئنا نردد عهدنا المكتوبا
ثم يقول في جمال عبدالناصر:
لو كان عهدك قبل عهد محمدٍ
لَلُعِنْتَ يا فرعونُ في القرآن
وأيضاً :
أو ليس مَن فاق الطغاة ضراوةً
أو ليسَ مَن صبّ البلاء مضاعفاً
أو ليسَ منكر كلَّ حقٍ حوله
وأحلَّ من حُرِّ الدماء حراما
وأثار للرعب البغيض قتاما
ولو استطاع لأنكر الإسلاما
وبالرغم من أن هاشم الرفاعي مات وهو محسوب على التيار الإسلامي إلا أنه من أشد وأقسى الشعراء الذين هاجموا دعوة الإخوان المسلمين..
في سبتمبر 1952 يقول في قصيدة (دعوة للجيب ) :
رهطٌ من الأطفال والصبيانِ
هم عصبةٌ للشر نعلم أنها
قالوا عليهم شعبة الإخوانِ
قامت على واهٍ من الأركانِ
الطريف أن هذه القصيدة تَبَرَّأَ منها كل المحققين لسيرة الشاعر وأسقطوها من قصائده.. إلا أن الأستاذ/ عبدالرحمن جامع الرفاعي ــ شقيق الشاعر ــ أوردها في كتابه.. وذكر أن شقيقه كان يهاجم أشخاصاً بعينهم من الإخوان.. كان قد اختلف معهم.. فكتب قصيدته الغاضبة..
يقول الرفاعي في الإمام حسن البنّا :
ليلٌ تلألأ فيه نجمٌ يلمعُ
به الرياض عبيرها يتضوّعُ
ويقول في الإخوان:
فهناك جندٌ قام يسعى جاهداً
الله أكبر.. في الحياة نداؤه
لله درّ القوم إن نفوسهم
في الدين يقتلع الفساد وينزَعُ
يمشي بها نحو الخلود ويُسرعُ
لتشعّ بالحق اليقين وتنبُعُ
ويعلق الأستاذ (عبدالرحمن الرفاعي) على ذلك فيقول : (إن هاشم كان متعاطفاً مع التيار الإسلامي ، ولكنه لم ينضم إلى أي تنظيم سياسي أو ديني.. ) فهو من أسرة متصوفة تصوفاً سنياً وينتهي نسبه إلى الإمام أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية..
إنّ المزايدة على الشاعر ووضعه في خندق الإخوان أو كفة الشيوعيين.. مجرد هراء فالرفاعي كان صوفياً ساند الوفد حتى قيام الثورة وظل يمتدح قائدها، ثم انقلب عليه ، ولم تكن له رؤية واضحة ، ولا أيديولوجية محددة، فهو مجرد شاعر موهوب فقط! .. أضرّت به المزايدات والمبالغات والتهويل في سيرته وطريقة موته.. والحقيقة أنه مات في ملعب كرة القدم بمدرسة أنشاص الإعدادية بعد أن طعنه أحد الأشخاص إثر مشادة بينهما وتنافس على رئاسة مجلس إدارة مركز الشباب..
كان الأتوبيس قد وصل إلى ميدان رمسيس .. لم أنتبه .. يودعني صاحبي الجديد.. وبعد أن عرفت أنه أحد أفراد عائلة الشاعر ، تبادلنا العنوان ورقم الهاتف.. هبطت من الأتوبيس .. قررت أن أترجل.. نفق شبرا خلف ظهري والباعة المتجولون على يميني يثيرون الضجيج على الضجيج في موقف (أحمد حلمي) وعلى اليسار بائع الصحف على ناصية (جزيرة بدران) .. أذان المغرب يعانق الكون.. يدي تطبق على كتاب هاشم الرفاعي.. أسير في خط مستقيم كعادتي .. أذوب في أكوام البشر.. أكتاف قانونية وغير قانونية أتلقاها.. ويدي تحكم الحصار حول الكتاب .. عيني تقع على إعلان ضخم يبشر الشباب بحل أزمة الإسكان وأن سعر الشقة لن يتجاوز 120 ألف جنيه .. وهنا سقط الكتاب من يدي!!!
كانت الساعة قد تخطت الخامسة بقليل ــ بتوقيت القاهرة الصيفي ــ والشمس تنكسر حدتها ببطء شديد ، ونهار الصيف المؤلم يصارع الليل حتى لا يجيء ، والحافلة تنطلق.. تخرج من الشرنقة.. تودع الأذن ضجيج القاهرة بالتدريج.. تطل نسمات صحاري مصر الجديدة ــ المطار .. يفاجئني صاحب المقعد المجاور لي باستفهام أفزعني : ( هاشم الرفاعي ؟!!) .. كاد الكتاب أن يسقط من يدي.. هبطتُ على أرض الواقع بعد أن سرقني هذا الكتاب من الزمن.. أجبته متلعثماً: نعم .. ولكن ابتسامته الهادئة لم تلبث أن تلاشت معها كل هواجسي..
ــ (ماذا تعرف عنه؟! ) .. تأملت ملامحه جيداً لأول مرة وامتطيت نرجسيتي لأستعرض عضلاتي الثقافية بعد أن أثارها باستفهامه التهكمي..!!
ــ كتبتُ عنه موضوعاً لإحدى المجلات العربية أقرب إلى التحقيق منه إلى المقال ولم ينشر.. فمدير مكتب المجلة في القاهرة قال لي كعادته (إنت مش حترتاح إلا لما تقفلها وبعدين نبيع بطاطا).. يضحك صاحبي بصوته ــ وكأنني قلت نُكتة ــ ثم يقول : هؤلاء المدراء يجاملون تلك المجلات العربية على حساب بلدهم والكثير منهم تخطى سن الخمسين ومازالوا في عداد النكرات.. ولكن (هاشم الرفاعي) توفي وهو طالب بالفرقة الثالثة بكلية دار العلوم ، وكما ترى أبدعَ وسطّر حروف اسمه بحروف من نور في سجل المبدعين..
ــ دعنا من الصحافة وهمومها وقل لي أنت من هو (هاشم الرفاعي) ؟!!
كان الأتوبيس قد وصل إلى محطته الأخيرة ــ موقف مطار القاهرة الجديد ــ ويستعد ليعاود الكَرّة من جديد.. والقادمون من مختلف بلدان العالم يُقبّلون ربوع المكان، والمسافرون يغسلون بدموعهم آلام الغربة القادمة.. وصديقي الجديد يفتح صندوق الدنيا ويسرقني من عامليْ الزمان والمكان لنتجول سوياً في عالم (هاشم الرفاعي) نتفيّأ ظلال ذكراه.. يا عُشب الذاكرة الأخضر.. ويا ماء الحياة الأزهر..
وُلد (هاشم جامع هاشم الرفاعي) في أنشاص الرمل ــ التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية في 15 مارس 1935م/1354هـ في أسرة مسلمة متدينة.. حفظ القرآن صبياً في كُتّاب القرية.. ثم يلتحق بعدها بكلية (دار العلوم) بالقاهرة ولم يكن (هاشم الرفاعي) مُجرد طالب موهوب.. بل كان مُسلماً متديناً حتى النخاع.. دانت له اللغة العربية فأصبحت طوع بنانه.. فإذا به ملء السمع والخاطر بطول البلاد وعرضها.. حيث انطلق كفارس من فرسان الشعر الجدد وذاع صيته في مهرجانات القاهرة ودمشق ــ وهو في العشرين ــ وقد تم اختياره طالباً مثالياً للجمهورية عام 1959م ..
كان هاشم الرفاعي شاباً متمرداً على السلبيات المألوفة ، يؤمن بأن الوطن لم يبتسم بعد والحرية حمامة مذعورة قصّوا أجنحتها.. ولذا هاجم (رجال الثورة) وهاجم (جمود الأزهر) وتم فصله أكثر من مرة من (المعهد الأزهري ودار العلوم) التي التحق بها فيما بعد.. وقد كتب وهو في الصف الأول الثانوي الأزهري قصيدته التي فُصِل بسببها عاماً كاملاً:
قُم في ربوعِ المجدِ وابكِ الأزهَرَا
واندُبْه روضاً للمكارمِ أقفرا
ولولا تدخل (محمد أنور السادات) رئيس مجلس الأمة حينذاك لتم فصله نهائياً.. والعلاقة بين (الرئيس السادات) و (هاشم الرفاعي) حيرت كل المهتمين بالأدب ومازال النقاد يلهثون ليعرفوا سر العلاقة بين الشاعر المتمرد وبين الزعيم (السادات).. وبالرغم من تمرد (الشاعر الدرعمي) على رجال الحكم حينذاك.. إلا أن الأمانة الأدبية تقتضي أن نقول: إن كمال الدين حسين ــ وزير التعليم ــ بذل الكثير من الجهد كي يروّض هذا الشاعر الشاب المتمرد.. فقد وجد الوزير في (هاشم الرفاعي) ضالته ووجد فيه الأمل الذي سيعيد (راية الشعر) إلى (مصر) بعد أن استقرت في (لبنان) بعد رحيل (شوقي) و (حافظ) .. وكان الوزير على وشك النجاح بإعادة الراية وتتويج (الرفاعي) أميراً جديداً لكن القدر أراد شيئاً آخر.. فقبل أن يُكمل (الشاعر) دراسته بكلية دار العلوم عاجلته المنيّة على أيدي بعض الحاقدين.. واستشهد الشاعر العظيم وهو مازال طالباً في الجامعة في 1 يوليو 1959 وهو لم يكمل الرابعة والعشرين.. أبدع فيها ما أبدع بالرغم من مشاكل إبعاده عن الدراسة وفقده لعامين بسب الفصل والمطاردة..
كان هاشم الرفاعي ~ يرفل في رداء الإسلام لا يترك مناسبة إلا وكان النجم الأول فيها..
أمسياتٌ من الضياءِ وليلٌ
ساهرٌ عنده تجمّع قومي
في خشوعٍ لا يسمع المرء منهم
رفَّ في جُنحِه الإخاءُ وزَانَهْ
حول شيخٍ مُرتّلٍ قُرآنَه
غير همسٍ: سبحانه.. سبحانَهْ
غاص هاشم الرفاعي في بحور الأدب العربي.. كتب في القصة والمسرحية.. وله محاولات شعرية باللغة العامية.. وقد أُطلقت عليه العديد من الألقاب: البُحتري الصغير/ شاعر الإسلام/ شاعر الطبيعة/ شاعر العروبة/ معجزة الشعر العربي...
ملكنا هذه الدنيا قرونا
وسطّرنا صحائفَ من ضياءٍ
وأخضَعَها جدودٌ خالدونا
فما نَسِــيَ الزمانُ ولا نَسينا
أما قصيدته الخالدة (رسالة في ليلة التنفيذ) فقد كان لها الغَلَبة والدور القوي والفعال.. حتى إن الكثيرين لا يعرفون له إلا هذه الملحمة ــ والتي كتبها قبل أن يكمل 19 عاماً من عمره القصير.. ومازال الكثيرون يعتقدون إلى الآن أن (هاشم الرفاعي) كان معتقلاً وأبدع هذه الملحمة الخالدة (رسالة في ليلة التنفيذ) داخل زنزانته.. ولكنها في الحقيقة رؤية شاعر أبدعها وهو في حجرة منزله.. وقد ذهب بعض نُقّاد العربية إلى أن (رسالة في ليلة التنفيذ) من أفضل 10 قصائد عربية قيلت في الخمسين سنة الأخيرة.. وقال بعض المتحمسين إنها من أفضل 10 قصائد في تاريخ الشعر العربي الحديث..
أبتاهُ ماذا قد يخطُّ بناني
هذا الكتابُ إليكَ من زنزانةٍ
لم تبقَ إلا ليلةٌ أحيا بِها
والحبلُ والجلاّد منتظرانِ
مقرورةٍ ، صخرية الجدرانِ
وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني
ويحلّق (هاشم الرفاعي) في سماء الشعر بين التدين والفلسفة والوصف والهجاء...
ومِن العواصِفِ ما يكون هبوبها
إن احتدامَ النارِ في جوفِ الثَّرَى
وتتابعُ القطراتِ ينزلُ بعدَهُ
بعد الهدوءِ وراحة الرُّبانِ
أمرٌ يثيرُ حفيظة البركانِ
سَيْلٌ يليهِ تدفقُ الطوفانِ
يقول الدكتور/ ذكي المهندس ــ عميد كلية دار العلوم الأسبق: لو قُدِّر لهاشم الرفاعي البقاء لكان أشعر أهل زمانه.. بينما أجمع كل من الروائي (يوسف السباعي) والدكتور/ عبدالحكيم بلبغ ــ عميد سابق لدار العلوم، والدكتورة/طلعة الرفاعي والأستاذ/ شفيق جبري (سوريا) .. أن هاشم الرفاعي لو عاش لسن الثلاثين لغيّر مجرى الشعر العربي وسحب البساط من شعراء العربية قدامى ومحدثين.. بينما يؤكد الدكتور/ أحمد هيكل ــ وزير الثقافة الأسبق أن هاشم الرفاعي كان (مشروع أمير لإمارة الشعر العربي) .. أما أستاذه (علي الجندي) فيقول: لو عاش هاشم خمس سنوات أُخرى لفاق شعراء العربية قاطبةً... بينما يؤكد الكُتّاب (مجدي الشهاوي ــ المتبني لحياة الشاعر) ومحمد كامل حتة / ومحمد حسن بريغش ــ الأردن ) : أن هاشم الرفاعي كان مُعجزة شعرية يصعب تكرارها.
ثم اختنق المصباح.. وذبلت الزهرة.. ومات هاشم قبل أن يكمل 24 ربيعاً..
أنا يا بُنَيّ غداً سيطويني الغَسَقْ
لم يبقَ من ظلِّ الحياةِ سوى رَمَقْ
وقد قامت كلية دار العلوم بتأبين الشاعر في جلسة باكية ضمت أساطين البديع في مصر والعالم العربي يتقدمهم وزير المعارف المصري ونخبة من الشعراء يرثون فقيد الشعر الشاب.. أحمد هيكل / علي الجندي/ شفيق جبري .. وغيرهم .. واختتمت الدكتورة السورية (طلعة الرفاعي) الليلة الحزينة بقولها:
يا زهرةٌ لو أُمهِلَتْ ملأَتْ نوافِحُها الرحاب
لهَفِي عليكَ فهل يطولُ على الحِمَى منكَ الغيابْ
كان هاشم الرفاعي يميل إلى تأييد (محمد نجيب) .. وعندما زار الرئيس نجيب محافظة الشرقية لتوزيع الأراضي على صغار الملاك قال:
أملٌ تحقق في البلاد عسيرُ
لما أعيد إلى الكنانة مجدُها
قد كان في خلد الفقير يدورُ
وانجاب عنها الليل والديجُورُ
ص وقفــــــــــــة ..
لا أتفق مع الذين صبغوا ديوان الرفاعي وقصائده إلى ما يؤمنون به (هم) من أفكار.. فالأستاذ/ محمد كامل حتة في 1960 جعل منه شيوعياً.. والأستاذ/محمد حسن بريغش في 1980 جعله أصولياً.. والحقيقة أن هاشم الرفاعي في سنواته الأولى لم يكن سوى شاعر مبدع فقط.. يمتدح جمال عبدالناصر ثم يهجوه!
جمعتَ لنا كياناً ضاعَ بين الناسِ واضطربا
وكنا في تخبطنا نخاف الغربَ إنْ غَضِبا
فلولاك لأصبحنا فريسته إذا وثبا
وأشْهَدُ أن أهل الأرض قد عرفوا بك العَرَبا
ويقول في 18 يونيو 1959:
الآن صارَ الدهرُ طوع بنانهِ
فانهض بشعبكَ يا جمالُ فإننا
مدَّ الذراع لمجده ترحيبا
جئنا نردد عهدنا المكتوبا
ثم يقول في جمال عبدالناصر:
لو كان عهدك قبل عهد محمدٍ
لَلُعِنْتَ يا فرعونُ في القرآن
وأيضاً :
أو ليس مَن فاق الطغاة ضراوةً
أو ليسَ مَن صبّ البلاء مضاعفاً
أو ليسَ منكر كلَّ حقٍ حوله
وأحلَّ من حُرِّ الدماء حراما
وأثار للرعب البغيض قتاما
ولو استطاع لأنكر الإسلاما
وبالرغم من أن هاشم الرفاعي مات وهو محسوب على التيار الإسلامي إلا أنه من أشد وأقسى الشعراء الذين هاجموا دعوة الإخوان المسلمين..
في سبتمبر 1952 يقول في قصيدة (دعوة للجيب ) :
رهطٌ من الأطفال والصبيانِ
هم عصبةٌ للشر نعلم أنها
قالوا عليهم شعبة الإخوانِ
قامت على واهٍ من الأركانِ
الطريف أن هذه القصيدة تَبَرَّأَ منها كل المحققين لسيرة الشاعر وأسقطوها من قصائده.. إلا أن الأستاذ/ عبدالرحمن جامع الرفاعي ــ شقيق الشاعر ــ أوردها في كتابه.. وذكر أن شقيقه كان يهاجم أشخاصاً بعينهم من الإخوان.. كان قد اختلف معهم.. فكتب قصيدته الغاضبة..
يقول الرفاعي في الإمام حسن البنّا :
ليلٌ تلألأ فيه نجمٌ يلمعُ
به الرياض عبيرها يتضوّعُ
ويقول في الإخوان:
فهناك جندٌ قام يسعى جاهداً
الله أكبر.. في الحياة نداؤه
لله درّ القوم إن نفوسهم
في الدين يقتلع الفساد وينزَعُ
يمشي بها نحو الخلود ويُسرعُ
لتشعّ بالحق اليقين وتنبُعُ
ويعلق الأستاذ (عبدالرحمن الرفاعي) على ذلك فيقول : (إن هاشم كان متعاطفاً مع التيار الإسلامي ، ولكنه لم ينضم إلى أي تنظيم سياسي أو ديني.. ) فهو من أسرة متصوفة تصوفاً سنياً وينتهي نسبه إلى الإمام أحمد الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية..
إنّ المزايدة على الشاعر ووضعه في خندق الإخوان أو كفة الشيوعيين.. مجرد هراء فالرفاعي كان صوفياً ساند الوفد حتى قيام الثورة وظل يمتدح قائدها، ثم انقلب عليه ، ولم تكن له رؤية واضحة ، ولا أيديولوجية محددة، فهو مجرد شاعر موهوب فقط! .. أضرّت به المزايدات والمبالغات والتهويل في سيرته وطريقة موته.. والحقيقة أنه مات في ملعب كرة القدم بمدرسة أنشاص الإعدادية بعد أن طعنه أحد الأشخاص إثر مشادة بينهما وتنافس على رئاسة مجلس إدارة مركز الشباب..
كان الأتوبيس قد وصل إلى ميدان رمسيس .. لم أنتبه .. يودعني صاحبي الجديد.. وبعد أن عرفت أنه أحد أفراد عائلة الشاعر ، تبادلنا العنوان ورقم الهاتف.. هبطت من الأتوبيس .. قررت أن أترجل.. نفق شبرا خلف ظهري والباعة المتجولون على يميني يثيرون الضجيج على الضجيج في موقف (أحمد حلمي) وعلى اليسار بائع الصحف على ناصية (جزيرة بدران) .. أذان المغرب يعانق الكون.. يدي تطبق على كتاب هاشم الرفاعي.. أسير في خط مستقيم كعادتي .. أذوب في أكوام البشر.. أكتاف قانونية وغير قانونية أتلقاها.. ويدي تحكم الحصار حول الكتاب .. عيني تقع على إعلان ضخم يبشر الشباب بحل أزمة الإسكان وأن سعر الشقة لن يتجاوز 120 ألف جنيه .. وهنا سقط الكتاب من يدي!!!
No comments:
Post a Comment