كان الطفل يركب الحمار بالمقلوب في حي (بولاق أبو العلا) بالقاهرة، والطرطور فوق رأسه ، وزفة ضخمة تضم المئات من الأطفال والنساء والرجال تسير خلفه في فرحة بالطبل والمزمار والزغاريد.. وجيش الفرنسيين يخترق حي بولاق بعد أن احتل القاهرة.. الزفة تقطع موكب الجيش بالعرض في بلاهة شديدة.. وهي تهتف (يا أبو الريش إن شا لله تعيش ) ... ( يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات ) ... يندهش نابليون بونابرت قائد الجيش الفرنسي ويسأل:
ما هذا ؟ ولماذا لم تكترث هذه المظاهرة بالجيش؟ فقالوا له : إنها زفة (المطاهر) فالمصريون (طاهروا) الطفل ويحتفون به.. فنظر نابليون بونابرت إلى المحيطين به من العلماء والجنود في أسى وحزن وقال: إن الشعب الذي تلهيه هذه التوافه عن المحتل لا يستحق أن يأتي إليه نابليون بنفسه.. إنني نادم على حضوري وسوف أعود ) .. وعاد نابليون .. ولكن بقيت الهيافة والتفاهة.. من جيل إلى جيل.. حتى اكتملت ملامح الصورة وأضلاع التفاهة بظهور المسلسلات التليفزيونية منذ مولد (ننوس عين أهله) في 1960 ليسرق الأوقات
ويحتل العقول ويصبح هو الرئة والمتنفس والحاكم بأمره في حياة الغلابة والبسطاء والمهمّشين.. فخطر التليفزيون لا يقل عن خطر الإدمان.. كلاهما مدمر وقادر على صنع المذابح الفكرية والتسطيح العقلي.. وقد عمل الكثيرون من مُعدّي البرامج التليفزيونية في (صحافة الجراد) وأعرف بعضهم.. وعقولهم التي تشبه الكرة.. مليئة بالهواء.. وكان أحد الزملاء في 1997 يكتب كلمة هذا .. (هاذا) وفريسة (فريصة) وقراءة (قرأة) ومقال (موقال) ... وقد أصبح هذا الزميل الآن مُعِدّ برامج بإحدى القنوات الفضائية المصرية.. ومادام التليفزيون المصري يعتمد على أولاد الذوات وأبناء المذيعين والمذيعات فسيظل في قاع القائمة لتليفزيونات المنطقة.. بعيداً عن الشعارات الزائفة لصفوت الشريف.. وتليفزيون الريادة.. ولا ندري الريادة في ماذا ؟ هل هي في السذاجة ؟ أم في تفاهة المذيعات؟ أم في النفاق ؟ .... ربما في المغالطات التاريخية والأخطاء العلمية... فعندما تطل علينا الست المذيعة في أحد البرامج وتقول: ( إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه ) صدق الله العظيم !!!! .. فسوف أعذرك إذا قذفت الشاشة بحذائك.. وعندما يصر التليفزيون أن هذا البيت لأحمد شوقي: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق
حتى إن المسلسلات البلهاء تكرر نفس المعلومة المغلوطة.. ويسلبون من (حافظ إبراهيم) حقه وملكيته لأشعار كثيرة تتردد على ألسنة العامة.. والذين يستسهلون اسم (أحمد شوقي) ويضعونه على أي (شعر) لا يعرفون صاحبه.. كما يحدث مع (الإمام الشافعي) في شعر الحكمة والزهد.. وأبي هريرة وابن عباس – أكثر المظلومين – في كل حديث يعجز المنافق أن يعرف التخريج والرواة.. فيلصق اسم أحدهما على الحديث النبوي..!!
أما الأخطاء العلمية والثقافية فهي تحتاج إلى مجلدات.. فقد رصدتُ العام الماضي أكثر من عشرين خطئاً لطارق علام في برنامجه (كلام من ذهب).. وهذه الأمور ــ إلى حد ما ــ لا تسبب كارثة !! ولكن الطامة الكبرى في مغالطات المسلسلات التليفزيونية التي تزيّف التاريخ وتشوّه الحقائق حسب ميول وأهواء المؤلف وتخاريفه التي يصدقها العامة وتؤثر فيهم وتجعلهم يتعاملون مع هذا (العبط) بقدسية عجيبة! ... فيرددون: نحن حضارة 7000 سنة .. وحتى هذه المقولة المملة خاطئة.. لأن علماء المصريات عثروا على بعض الهياكل العظمية وبقايا الأدوات التي كان يستخدمها قدامى قدماء المصريين الذين عاشوا في مناطق الفيوم والواحات وكوم إمبو خلال العصر القديم.. وهو يرجع إلى ما قبل مائة ألف سنة.. وانتهى سنة 10.000 قبل الميلاد.. كما عُثر على آثار قدامى المصريين في منطقة (حلوان) و (وادي حوف) خلال العصر الحجري المتوسط في الفترة من عام 10000 إلى عام 8000 قبل الميلاد..
وهكذا يستمر الجهل.. يحذفون اسم الرئيس محمد نجيب ــ أول رئيس لجمهورية مصر العربية ــ من كل أحداث التاريخ، وكأن الرجل لم يكن.. فلولاه ما كان جمال عبدالناصر ولا بقية العصابة التي دمرت مصر.. فالتاريخ في مسلسلات التليفزيون يُكتب حسب الأمزجة والأهواء المريضة كما يفعل أنور عكاشة ــ الظالم لإنجازات السادات ــ وصالح مرسي ، الذي يأتي بالتاريخ من حكايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة .. وغيرهم من المحظوظين في المبنى الموبوء.. ماسبيرو العجيب.. أما المسلسلات الدينية .. فإن ما يحيرني ؛ كيف يجرؤ كاتب على اختلاق أحداث ومواقف في حياة الصحابة والتابعين ؟! كيف بالله عليكم ؟ فمثلاً .. ما حدث في مسلسل (الأمير المجهول) من تخاريف وخيال مؤلف يجعلنا نرفع العصا الغليظة في وجوه هؤلاء المخرّفين.. فمن هو هذا الأمير المجهول؟ ومن أين استقى المؤلف هذا الوهم.. ولا يكفي أن تكون القصة قد وردت في (ابن كثير) لإثبات صحتها.. لأن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة تناقض الحدث.. مثل قصة (رابعة العدوية) التي تناقض حقيقتها تخاريف السينما والتليفزيون فـ(رابعة) كانت في حياتها الأولى إنسانة عادية ولم تكن راقصة أو مغنية أو كما أظهرها الفيلم (ماجنة).. فكل هذا لم يكن سوى خيال خصب للمؤلفين كي يتلاعبوا بمشاعر العامة وخاصة في النصف الأول من حياتها والذي يحتاج إلى (بهارات) سينمائية لجذب الجمهور.. وإذا عدنا لمسلسل (موسى بن نصير) ثم (طارق بن زياد) لوقفنا طويلاً أمام الخطبة الشهيرة لطارق في فتح الأندلس (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم ، والعدو أمامكم... ) إلى آخر الخطبة الشهيرة.. وعندما يسأل الإنسان نفسه هل يستطيع طارق بن زياد .. والذي لم يكن عربياً .. وأسلم والده أيام عقبة بن نافع.. هل يستطيع هذا الشاب الحديث العهد باللغة والإسلام أن يلقي هذه الكلمات ذات المستوى اللغوي الرفيع ؟! .. وهذا الأسلوب الأدبي الرصين؟! .. لنفترض سوياً أنه استطاع في مدة وجيزة أن يمتلك ناصية اللغة!! ولكن ـ وهنا نتصفح معاً ما يقوله المؤرخ د. عبدالعظيم رمضان (إن جيش طارق بن زياد لم يكن يعرف العربية.. فقد أجمع المؤرخون العرب على أن جيش الفتح الذي قاده طارق لفتح الأندلس كان في غالبيته الساحقة من البربر.. وقد ذكر ابن خلدون أن جيش طارق بن زياد كان به عشرة آلاف من البربر وثلاثمائة فقط من العرب) .. وطبعاً من غير المعقول أن يتحدث قائد من البربر إلى جيشه المكوّن من البربر باللغة العربية.. وكما يقولون :إن اللغة أبطأ تعلماً من الدين .. وللعلم فإن البربر مازالوا يتحدثون لغتهم حتى هذه اللحظة .. ولو كانوا قد تعلموا العربية في تلك السنوات لهجروا لغتهم واندثرت منذ أزمان بعيدة!! ... أما في مسلسل (الفرسان) المأخوذ من قصة (وا إسلاماه) للكاتب اليمني (علي أحمد باكثير) .. فنجد أن الجميع يصرون على الخطأ التاريخي ويخلطون بين المغول والتتار.. فالمغول الذين أنجبوا (هولاكو) و (جنكيز خان) وكانوا القوة الأولى على سطح الكرة الأرضية في ذلك الوقت ــ مثل الشيطان الأمريكي في عصرنا ــ هم دولة منغوليا الآن.. أفقر دول الأرض وأقلها شأناً !! وهذا هو حال الدنيا.. وقد نشرت جريدة الأهرام منذ فترة أن منغوليا تعيش حياة أقرب للقرن الثامن عشر ، وتسيطر الحياة البدائية والتخلف على كل جوانب المجتمع المنغولي.. سبحان الله .. يُعزّ من يشاء ويُذل من يشاء.. أما (التتر) فهي جمهورية إسلامية استولى عليها الاتحاد السوفيتي في أوائل القرن العشرين.. ومازال الإسلام هو دين الغالبية العظمى للتتار.. وكان المغول بعد أن استولوا عليها في القرن السابع الهجري جعلوها محطة انطلاقهم إلى البلاد العربية والإسلامية التي غزوها.. فالتصقت التهمة الظالمة والتسمية الخاطئة بالتتار.. وهو خطأ تاريخي شائع تتناقله ــ للأسف ــ الأقلام والأجيال .. فمن ينصف مسلمي التتار من قسوة الروس الملاحدة وظلم التاريخ والمؤرخين لهم؟!!
أنا هنا لا أستعرض الأخطاء التاريخية الشائعة.. فوقتها لم يأت بعد.. حتى الأحاديث النبوية ومنها حديث في صحيح البخاري أن الرسول ص مات ودرعه مرهونة عند يهودي.. والحقيقة أنه أثناء وفاة النبي ص لم يكن في مكة والمدينة يهودي واحد ! فقد أجلاهم النبي ص بعيداً عن مراكز القيادة الإسلامية وانقطعت العلاقات التجارية بين الطرفين تماماً.. كما أن المسلمين في هذه
السنوات الأخيرة من حياة النبي ص قد استقرت أحوالهم وتحسنت ظروفهم وكان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان { يعادلان مليونيرات هذا الزمان.. وربما يتفوقان .. إذن ما الذي يجعل النبي ص يترك صاحبه ووالد زوجته عائشة، وزوج ابنته عثمان .. ليقترض من يهودي؟!! كما أنه ص وهو في سكرات الموت طلب من السيدة عائشة أن تتصدق بالدنانير السبعة الموجودة في منزله ولو كان ص مديوناً أو درعه مرهونة – كما يقولون – لطلب أن تذهب هذه الدنانير إلى ذلك الأمر بدلاً من التصدق بها!!
إن مسلسلات التليفزيون ليست كلها شرّ .. فمسلسل مثل (الوديعة) الذي أذاعه التليفزيون مرة واحدة منذ أوائل التسعينيات يتفوق على عشرات الكتب وآلاف النصائح عن (الأمانة) ولا ينافسه سوى مسلسل (أولاد آدم) للأستاذ محمد جلال عبدالقوي.. وكما نعلم أن فعل رجل في ألف رجل أقوى وأفضل من كلام ونصائح ألف رجل لرجل.. وهكذا المسلسل يلعب دوراً رئيسياً في تشكيل عقول البسطاء سواء بالسلب أو بالإيجاب.. والإنسان العربي بطبعه يعشق الحواديت والحكايات والسّير الشعبية التي تحتل مكاناً شاسعاً في تراثنا بسبب عقدة الزعامة والبطولة والخوارق التي نختلقها ونصدق أنفسنا عن الشاطر حسن والغولة وعنترة وسيرة بني هلال.. وأدهم الشرقاوي وجمال عبدالناصر.. فالحقيقة لا تزيد عن 3% أما النسبة الباقية فقد اختلقها العقل العربي الذي يجيد صناعة الأبطال من الوهم كما صنع الأجداد التماثيل والأصنام وعبدوها..
والمسلسل لا يزيد عن كونه حدوته من (دماغ) مؤلف نجح باقتدار أن يسرقك من الزمن.. وأذكر أنني سألت الدكتور عبدالقادر القط ~ في إحدى ندوات قصر ثقافة روض الفرج عن رأيه في الصراع بين الشعر والقصة وأيهما يستحق أن يكون (ديوان العرب) .. فباغتني الناقد العملاق د.عبدالقادر القط قائلاً:
المسلسلات التليفزيونية الآن هي ديوان العرب !!
ما هذا ؟ ولماذا لم تكترث هذه المظاهرة بالجيش؟ فقالوا له : إنها زفة (المطاهر) فالمصريون (طاهروا) الطفل ويحتفون به.. فنظر نابليون بونابرت إلى المحيطين به من العلماء والجنود في أسى وحزن وقال: إن الشعب الذي تلهيه هذه التوافه عن المحتل لا يستحق أن يأتي إليه نابليون بنفسه.. إنني نادم على حضوري وسوف أعود ) .. وعاد نابليون .. ولكن بقيت الهيافة والتفاهة.. من جيل إلى جيل.. حتى اكتملت ملامح الصورة وأضلاع التفاهة بظهور المسلسلات التليفزيونية منذ مولد (ننوس عين أهله) في 1960 ليسرق الأوقات
ويحتل العقول ويصبح هو الرئة والمتنفس والحاكم بأمره في حياة الغلابة والبسطاء والمهمّشين.. فخطر التليفزيون لا يقل عن خطر الإدمان.. كلاهما مدمر وقادر على صنع المذابح الفكرية والتسطيح العقلي.. وقد عمل الكثيرون من مُعدّي البرامج التليفزيونية في (صحافة الجراد) وأعرف بعضهم.. وعقولهم التي تشبه الكرة.. مليئة بالهواء.. وكان أحد الزملاء في 1997 يكتب كلمة هذا .. (هاذا) وفريسة (فريصة) وقراءة (قرأة) ومقال (موقال) ... وقد أصبح هذا الزميل الآن مُعِدّ برامج بإحدى القنوات الفضائية المصرية.. ومادام التليفزيون المصري يعتمد على أولاد الذوات وأبناء المذيعين والمذيعات فسيظل في قاع القائمة لتليفزيونات المنطقة.. بعيداً عن الشعارات الزائفة لصفوت الشريف.. وتليفزيون الريادة.. ولا ندري الريادة في ماذا ؟ هل هي في السذاجة ؟ أم في تفاهة المذيعات؟ أم في النفاق ؟ .... ربما في المغالطات التاريخية والأخطاء العلمية... فعندما تطل علينا الست المذيعة في أحد البرامج وتقول: ( إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه ) صدق الله العظيم !!!! .. فسوف أعذرك إذا قذفت الشاشة بحذائك.. وعندما يصر التليفزيون أن هذا البيت لأحمد شوقي: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق
حتى إن المسلسلات البلهاء تكرر نفس المعلومة المغلوطة.. ويسلبون من (حافظ إبراهيم) حقه وملكيته لأشعار كثيرة تتردد على ألسنة العامة.. والذين يستسهلون اسم (أحمد شوقي) ويضعونه على أي (شعر) لا يعرفون صاحبه.. كما يحدث مع (الإمام الشافعي) في شعر الحكمة والزهد.. وأبي هريرة وابن عباس – أكثر المظلومين – في كل حديث يعجز المنافق أن يعرف التخريج والرواة.. فيلصق اسم أحدهما على الحديث النبوي..!!
أما الأخطاء العلمية والثقافية فهي تحتاج إلى مجلدات.. فقد رصدتُ العام الماضي أكثر من عشرين خطئاً لطارق علام في برنامجه (كلام من ذهب).. وهذه الأمور ــ إلى حد ما ــ لا تسبب كارثة !! ولكن الطامة الكبرى في مغالطات المسلسلات التليفزيونية التي تزيّف التاريخ وتشوّه الحقائق حسب ميول وأهواء المؤلف وتخاريفه التي يصدقها العامة وتؤثر فيهم وتجعلهم يتعاملون مع هذا (العبط) بقدسية عجيبة! ... فيرددون: نحن حضارة 7000 سنة .. وحتى هذه المقولة المملة خاطئة.. لأن علماء المصريات عثروا على بعض الهياكل العظمية وبقايا الأدوات التي كان يستخدمها قدامى قدماء المصريين الذين عاشوا في مناطق الفيوم والواحات وكوم إمبو خلال العصر القديم.. وهو يرجع إلى ما قبل مائة ألف سنة.. وانتهى سنة 10.000 قبل الميلاد.. كما عُثر على آثار قدامى المصريين في منطقة (حلوان) و (وادي حوف) خلال العصر الحجري المتوسط في الفترة من عام 10000 إلى عام 8000 قبل الميلاد..
وهكذا يستمر الجهل.. يحذفون اسم الرئيس محمد نجيب ــ أول رئيس لجمهورية مصر العربية ــ من كل أحداث التاريخ، وكأن الرجل لم يكن.. فلولاه ما كان جمال عبدالناصر ولا بقية العصابة التي دمرت مصر.. فالتاريخ في مسلسلات التليفزيون يُكتب حسب الأمزجة والأهواء المريضة كما يفعل أنور عكاشة ــ الظالم لإنجازات السادات ــ وصالح مرسي ، الذي يأتي بالتاريخ من حكايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة .. وغيرهم من المحظوظين في المبنى الموبوء.. ماسبيرو العجيب.. أما المسلسلات الدينية .. فإن ما يحيرني ؛ كيف يجرؤ كاتب على اختلاق أحداث ومواقف في حياة الصحابة والتابعين ؟! كيف بالله عليكم ؟ فمثلاً .. ما حدث في مسلسل (الأمير المجهول) من تخاريف وخيال مؤلف يجعلنا نرفع العصا الغليظة في وجوه هؤلاء المخرّفين.. فمن هو هذا الأمير المجهول؟ ومن أين استقى المؤلف هذا الوهم.. ولا يكفي أن تكون القصة قد وردت في (ابن كثير) لإثبات صحتها.. لأن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة تناقض الحدث.. مثل قصة (رابعة العدوية) التي تناقض حقيقتها تخاريف السينما والتليفزيون فـ(رابعة) كانت في حياتها الأولى إنسانة عادية ولم تكن راقصة أو مغنية أو كما أظهرها الفيلم (ماجنة).. فكل هذا لم يكن سوى خيال خصب للمؤلفين كي يتلاعبوا بمشاعر العامة وخاصة في النصف الأول من حياتها والذي يحتاج إلى (بهارات) سينمائية لجذب الجمهور.. وإذا عدنا لمسلسل (موسى بن نصير) ثم (طارق بن زياد) لوقفنا طويلاً أمام الخطبة الشهيرة لطارق في فتح الأندلس (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم ، والعدو أمامكم... ) إلى آخر الخطبة الشهيرة.. وعندما يسأل الإنسان نفسه هل يستطيع طارق بن زياد .. والذي لم يكن عربياً .. وأسلم والده أيام عقبة بن نافع.. هل يستطيع هذا الشاب الحديث العهد باللغة والإسلام أن يلقي هذه الكلمات ذات المستوى اللغوي الرفيع ؟! .. وهذا الأسلوب الأدبي الرصين؟! .. لنفترض سوياً أنه استطاع في مدة وجيزة أن يمتلك ناصية اللغة!! ولكن ـ وهنا نتصفح معاً ما يقوله المؤرخ د. عبدالعظيم رمضان (إن جيش طارق بن زياد لم يكن يعرف العربية.. فقد أجمع المؤرخون العرب على أن جيش الفتح الذي قاده طارق لفتح الأندلس كان في غالبيته الساحقة من البربر.. وقد ذكر ابن خلدون أن جيش طارق بن زياد كان به عشرة آلاف من البربر وثلاثمائة فقط من العرب) .. وطبعاً من غير المعقول أن يتحدث قائد من البربر إلى جيشه المكوّن من البربر باللغة العربية.. وكما يقولون :إن اللغة أبطأ تعلماً من الدين .. وللعلم فإن البربر مازالوا يتحدثون لغتهم حتى هذه اللحظة .. ولو كانوا قد تعلموا العربية في تلك السنوات لهجروا لغتهم واندثرت منذ أزمان بعيدة!! ... أما في مسلسل (الفرسان) المأخوذ من قصة (وا إسلاماه) للكاتب اليمني (علي أحمد باكثير) .. فنجد أن الجميع يصرون على الخطأ التاريخي ويخلطون بين المغول والتتار.. فالمغول الذين أنجبوا (هولاكو) و (جنكيز خان) وكانوا القوة الأولى على سطح الكرة الأرضية في ذلك الوقت ــ مثل الشيطان الأمريكي في عصرنا ــ هم دولة منغوليا الآن.. أفقر دول الأرض وأقلها شأناً !! وهذا هو حال الدنيا.. وقد نشرت جريدة الأهرام منذ فترة أن منغوليا تعيش حياة أقرب للقرن الثامن عشر ، وتسيطر الحياة البدائية والتخلف على كل جوانب المجتمع المنغولي.. سبحان الله .. يُعزّ من يشاء ويُذل من يشاء.. أما (التتر) فهي جمهورية إسلامية استولى عليها الاتحاد السوفيتي في أوائل القرن العشرين.. ومازال الإسلام هو دين الغالبية العظمى للتتار.. وكان المغول بعد أن استولوا عليها في القرن السابع الهجري جعلوها محطة انطلاقهم إلى البلاد العربية والإسلامية التي غزوها.. فالتصقت التهمة الظالمة والتسمية الخاطئة بالتتار.. وهو خطأ تاريخي شائع تتناقله ــ للأسف ــ الأقلام والأجيال .. فمن ينصف مسلمي التتار من قسوة الروس الملاحدة وظلم التاريخ والمؤرخين لهم؟!!
أنا هنا لا أستعرض الأخطاء التاريخية الشائعة.. فوقتها لم يأت بعد.. حتى الأحاديث النبوية ومنها حديث في صحيح البخاري أن الرسول ص مات ودرعه مرهونة عند يهودي.. والحقيقة أنه أثناء وفاة النبي ص لم يكن في مكة والمدينة يهودي واحد ! فقد أجلاهم النبي ص بعيداً عن مراكز القيادة الإسلامية وانقطعت العلاقات التجارية بين الطرفين تماماً.. كما أن المسلمين في هذه
السنوات الأخيرة من حياة النبي ص قد استقرت أحوالهم وتحسنت ظروفهم وكان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان { يعادلان مليونيرات هذا الزمان.. وربما يتفوقان .. إذن ما الذي يجعل النبي ص يترك صاحبه ووالد زوجته عائشة، وزوج ابنته عثمان .. ليقترض من يهودي؟!! كما أنه ص وهو في سكرات الموت طلب من السيدة عائشة أن تتصدق بالدنانير السبعة الموجودة في منزله ولو كان ص مديوناً أو درعه مرهونة – كما يقولون – لطلب أن تذهب هذه الدنانير إلى ذلك الأمر بدلاً من التصدق بها!!
إن مسلسلات التليفزيون ليست كلها شرّ .. فمسلسل مثل (الوديعة) الذي أذاعه التليفزيون مرة واحدة منذ أوائل التسعينيات يتفوق على عشرات الكتب وآلاف النصائح عن (الأمانة) ولا ينافسه سوى مسلسل (أولاد آدم) للأستاذ محمد جلال عبدالقوي.. وكما نعلم أن فعل رجل في ألف رجل أقوى وأفضل من كلام ونصائح ألف رجل لرجل.. وهكذا المسلسل يلعب دوراً رئيسياً في تشكيل عقول البسطاء سواء بالسلب أو بالإيجاب.. والإنسان العربي بطبعه يعشق الحواديت والحكايات والسّير الشعبية التي تحتل مكاناً شاسعاً في تراثنا بسبب عقدة الزعامة والبطولة والخوارق التي نختلقها ونصدق أنفسنا عن الشاطر حسن والغولة وعنترة وسيرة بني هلال.. وأدهم الشرقاوي وجمال عبدالناصر.. فالحقيقة لا تزيد عن 3% أما النسبة الباقية فقد اختلقها العقل العربي الذي يجيد صناعة الأبطال من الوهم كما صنع الأجداد التماثيل والأصنام وعبدوها..
والمسلسل لا يزيد عن كونه حدوته من (دماغ) مؤلف نجح باقتدار أن يسرقك من الزمن.. وأذكر أنني سألت الدكتور عبدالقادر القط ~ في إحدى ندوات قصر ثقافة روض الفرج عن رأيه في الصراع بين الشعر والقصة وأيهما يستحق أن يكون (ديوان العرب) .. فباغتني الناقد العملاق د.عبدالقادر القط قائلاً:
المسلسلات التليفزيونية الآن هي ديوان العرب !!
No comments:
Post a Comment